... واحترقت مكتبة أدبية أخرى

ثلاثاء, 06/13/2017 - 14:23

 

 

في تأبين السيد الخليل ولد مولود رحمه الله

كنت أعرف السيد الخليل ولد مولود - رحمه الله- منذ زمن، فنحن من منطقة واحدة، وقرية واحدة، ونسكن منذ حين مدينة واحدة. ولكن معرفتنا ظلت سطحية رغم ذلك، فهو ليس من أولئك الذين يغتصبون خصوصيات غيرهم ويفرضون عليهم التعارف والتفاعل المبتسر. 
ومنذ نحو ثلاث سنوات فقط جمعتني معه ندوات مسائية نظمها بعض المصطافين خارج العاصمة على طريق انواذيبو، حيث النسيم العليل ولبن الإبل وسمر الأرض.. فاكتشفت بعض خصاله، وعمي علي بعض... 
واستمرت الألفة بيننا منذئذ، فكنا نلتقي من حين لآخر، وكلما التقينا نقرر تلبية دعوة مفتوحة وجهها إلي نهرب فيها من صخب وهموم المدينة إلى باديته فننفق وقتا غير محسوب في "العربدة" بين معاهد وأوكار الوطن التي خلدها شعراؤه وأدباؤه عبر ترحالهم في نصوص جميلة نحفظها معا عن ظهر قلب، وإن كان يمتاز عني بمعرفة جل تلك الأماكن عيانا أو على الخريطة. ومن بين خصاله المميزة - رحمه الله- ما يلي :
- كان مكتبة أدبية تجمع بين الجزالة والطرافة والغنى؛ وما أسفت على شيء مثل أسفي على احتراق تلك المكتبة دون أن أجني منها شيئا، حتى ولو كان نزرا قليلا؛ إذ كنت أؤجل – كغيري- الارتواء من معينه الأدبي الغزير إلى فرصة أوسع دون أن أضع اعتبارا للموت بسبب جهلي.
 وأذكر هنا - كاستثناء من تلك القاعدة- أننا التقينا ذات مرة، وكنت ضجرا مما بين يدي، فطلبت منه أن يتحفني بنص أدبي لم أكن قد سمعته من قبل، فلم يتلجلج أو يتردد، وأنشدني بداهة طلعة ما سمعتها من قبل، حفظتها من حكاية واحدة لجزالتها وجمالها وعفويتها وندرة غرضها العذري الذي كاد أن يختفي من أدبنا الحديث بفعل طغيان وضغط الحياة المادية :
مارت عنـــي فَاعْلَ ** تشــــــواش يلعل
نمشِ في الليل اعلَ ** كـرعَيَّ في الظلم
مان واعـــــــد فَعْلَ ** ألان واعِدْ كَــــلْم !
فما أروع هذا النص الذي استطاع قائله "نظم مراده" في شكل أدبي رفيع قابل للتداول في كل وسط وزمان، وفي حيز ضيق لا يتجاوز ستة أشطار (تيفلواتن) مجزوءة ! 
- وكان، رحمه الله - رغم تمدنه وتمعدنه في انواكشوط وما له من مشاغل وارتباطات عصرية- يعشق البادية وحياتها، ويملك قطعانا من المواشي يرتاد بها المراعي أينما كانت. وكانت لديه هواية الوقوف على جميع المعاهد والدمن والأوكار المذكورة في كنوزنا الأدبية التي قلما غابت عن حفظه إحدى أمهاتها. وبذلك أصبح موسوعة جغرافية لتلك الأماكن "الأثرية" شاء حظنا العاثر أن تضيع هي الأخرى إذا لم يكن قد دون منها شيئا.. فمتى نعتبر !
- أما الخصلة الثالثة التي لم أكتشفها فيه إلا بعد وفاته رحمه الله؛ والتي هي من أعظم خصال الرجال وأندرها توفرا في ساستنا ومتكلمينا الذين يحبون العاجلة، فتتمثل في رحابة صدره ومدى قبوله بالرأي الآخر وطول نفسه وصبره في العمل السياسي. وأضرب لذلك المثل التالي : أنا سياسي بطبيعتي. وكنت خلال عقود الجمر والهدر ناشطا في صفوف المعارضة الوطنية؛ خاصة شيعة الرئيس أحمد ولد داداه، إلى أن قرر الالتحاق بجبهة الدفاع عن الديمقراطية التي تطالب بعودة الرئيس سيدي إلى الحكم. عندها فقط، انفصلت عن المعارضة لأسباب تتعلق بالخط، شرحتها في كثير من المناسبات. لم يرق ذلك لمعظم أصدقائي في المعارضة، وظل مثار جدل ونقاش بيني وإياهم كلما سنحت لنا الفرصة. ومن الغريب أنه خلال جميع أحاديثنا لم يصدر عن الخليل - رحمه الله- أي رأي أو تعليق حول هذا الموضوع ! الشيء الذي كنت أرده إلى اعتزاله للسياسة. ولكن، كم كانت مفاجأتي كبيرة عندما علمت بعد وفاته أنه كان قياديا بارزا في حزب تكتل القوى الديمقراطية الذي نعاه نعيا مهيبا بصفته تلك ! فالرجل إذن لم يكن في عجلة من أمر السياسة؛ بل كان يمارسها بأريحية، ويدعو إليها بالحكمة وبالتي هي أحسن، وكانت له مشارب واهتمامات أخرى غيرها.. وحسنا فعل. 
فرحم الله الخليل ولد مولود وأسكنه فسيح جناته، وبارك في خلفه وذويه، وفي أصدقائه ورفاقه، وألهمهم جميعا الصبر والسلوان. 
إنه سميع مجيب.

بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو